وادي زم: يوسف الوراق
وادي زم - حي المسيرة: تحت سماء مدينة وادي زم الهادئة، ينام حي المسيرة على صفيح ساخن من التلوث. هنا، حيث تختلط رائحة الخبز الساخن بدخان كاوٍ ورماد يتسلل عبر النوافذ المغلقة، تدور فصول مأساة بيئية وصحية سببها "معامل غير مرخصة" تعمل في قلب التجمعات السكنية، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين البيئية والصحية، ومحولة حياة السكان إلى "جحيم صامت".
البؤرة السوداء في قلب الحي
لطالما كان حي المسيرة موطنًا لآلاف العائلات التي تسعى إلى العيش الكريم، لكن هدوء الحي بدأ يتآكل بفعل أنشطة صناعية سرية ومكثفة. تشير التحقيقات الأولية وشهادات السكان إلى وجود عدد من المعامل – غير المعروفة بدقة - تعمل في أنشطة تتطلب تصاريح بيئية صارمة، مثل صباغة، أو صناعة مواد أولية للنسيج، هذه المعامل تعتمد على مواد كيميائية خطرة.
شهادات الأهالي: "لا نستطيع التنفس ليلاً"
تحدثنا مع عدد من سكان الحي الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم خوفاً من أي رد فعل، لكن كلماتهم كانت موحدة ومؤلمة:
"نحن نعيش في سجن من الدخان. الرائحة الخانقة تبدأ في المساء وتستمر طوال الليل. لا يمكننا فتح النوافذ. أطفالنا يعانون من حساسية دائمة في الصدر وضيق في التنفس." - سيدة في الأربعينات، تسكن بالقرب من إحدى المعامل.
"الأمر ليس فقط دخاناً. هناك أصوات مزعجة طوال الليل، ورماد أسود ناعم يتراكم على الشرفات كل صباح. نُظف منازلنا ولا نكاد ننتهي حتى يعود التلوث مرة أخرى." - شاب من الحي.
هذه المعامل تعمل في ظروف غالباً ما تفتقر إلى أبسط معايير السلامة المهنية، ناهيك عن المعايير البيئية. فبدلاً من أنظمة الفلترة والتهوية المخصصة للمناطق الصناعية، يتم إطلاق الملوثات مباشرة في هواء الحي، لتصبح جزءاً من الرئة التي يذتتنفس بها الساكنة
.المخاطر المزدوجة: البيئة والصحة
إن وجود هذه المنشآت في منطقة سكنية يمثل خرقًا مزدوجًا وخطيرًا:
الخطر البيئي الفوري: يشمل تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة والغازات السامة (كأكاسيد الكبريت والنيتروجين إذا كانت الأنشطة تتضمن احتراقاً غير كامل)، وتلوث التربة والمياه الجوفية نتيجة التخلص العشوائي من النفايات الصناعية السائلة والصلبة. هذا التلوث يؤدي إلى تدهور نوعية الحياة بشكل جذري.
الخطر الصحي المزمن: الأثر الصحي هو الأكثر إثارة للقلق. التعرض المستمر لهذه الملوثات يزيد بشكل كبير من معدلات:
أمراض الجهاز التنفسي (الربو، والتهاب الشعب الهوائية).
الحساسية الجلدية والعينية.
وفي الحالات الأكثر خطورة، قد يؤدي التعرض طويل الأمد للمواد الكيميائية الثقيلة إلى زيادة خطر الإصابة بالسرطان والأمراض العصبية، خاصة لدى الأطفال الذين يعتبرون الأكثر عرضة لتأثير التلوث.
الإطار القانوني والمسؤولية الغائبة
يصنف القانون المغربي المنشآت الصناعية ضمن "المنشآت المصنفة" التي تخضع لرقابة صارمة بموجب القانون رقم 12.03 المتعلق بدراسات تقييم الأثر البيئي والقوانين المتعلقة بحماية البيئة من التلوث. وتُلزم هذه القوانين المستغلين بالحصول على تراخيص مسبقة، ووضع تجهيزات قياس للتلوث، وتطبيق إجراءات وقائية.
إن عمل هذه المعامل دون ترخيص ووسط تجمع سكاني هو انتهاك صريح وفاضح للقانون، حيث يفترض أن تقوم السلطات المحلية والإدارة المعنية (مثل السلطات الإقليمية ومصالح وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة) بـ:
إصدار إنذار للمنشآت المخالفة.
الأمر بالتوقيف الجزئي أو الكلي للنشاط إذا تحقق "خطر وشيك".
التدخل القضائي لفرض إغلاق هذه المعامل أو نقلها إلى مناطق صناعية مخصصة، على نفقة المستغلين.
السؤال الأبرز: كيف تمكنت هذه المعامل من التسلل والعمل في قلب الحي السكني لسنوات دون رادع؟ وهل هناك قصور في الرقابة أو تغاض عن تطبيق القانون؟ هذا ما يجب أن تجيب عليه السلطات المحلية والجهات المسؤولة عن المراقبة البيئية والتعمير.
نداء الاستغاثة والحلول المطلوبة
سكان حي المسيرة، محتجزون بين مطرقة الحاجة إلى السكن وسندان التلوث، يوجهون نداء استغاثة عاجلاً إلى كل من:
السلطات المحلية والأمنية: للتدخل الفوري لإجراء تفتيش ميداني شامل، وتحديد هوية هذه المعامل غير المرخصة، والأمر بإغلاقها ونقلها خارج النطاق العمراني.
وزارة الصحة: لإرسال فرق طبية لإجراء فحوصات سكانية، خاصة للأطفال، لتقييم مدى الضرر الصحي الناتج عن التلوث.
الفعاليات المدنية: لحشد الجهود ودعم ملف السكان عبر توثيق الانتهاكات وتحويلها إلى قضايا رأي عام وقضايا قانونية للضغط من أجل تطبيق القانون.
إن حماية صحة المواطنين وسلامة البيئة هي مسؤولية الدولة والمجتمع. لا يمكن التغاضي عن "جحيم صامت" يهدد أطفالنا وبراءتهم مقابل أنشطة اقتصادية عشوائية لا تحترم لا القانون ولا أبسط حقوق الإنسان. حي المسيرة يستحق الهواء النظيف والحياة الآمنة.
أضف تعليقك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.
تعليقات
0