محمد العمارتي/ أستاذ القانون الدولي
ذهبت بعض القراءات والتحاليل للوضع الفلسطيني في سياق التطورات والتداعيات الأخيرة التي تميزت بتصعيد إسرائيل لهجماتها وعدوانها على المدنيين في قطاع غزة، الى ان الأمل في ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه المشروع في تقرير مصيره وفقا للقانون الدولي بات مهددا أكثر من أي وقت مضى.
فبالتزامن مع الذكرى 77 لقيام إسرائيل (14 مايو 1948)، كشفت الحكومة اليمينية الإسرائيلية عن خطتها العدوانية الرامية الى مواصلة وتصعيد عملياتها العسكرية ضد السكان المدنيين في قطاع غزة. وتهدف هذه الخطة التي صادق عليها مجلس الأمن الإسرائيلي ووافقت عليها الحكومة بالإجماع الى " الاحتلال الكامل لقطاع غزة"،والتهجير القسري للسكان الى جنوب القطاع بذريعة " حمايتهم" .
وحسب الإعلان الرسمي عن هذه الخطة في 5 مايو 2025، فان هدفها الأساسي يتمثل في تحرير ما تبقى من الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل المسلحة الفلسطينية منذ عملية السابع من أكتوبر 2023، و" استئصال " الجناح العسكري لحركة حماس والقضاء النهائي عليه.
والواقع أن إسرائيل ومن خلال التهديد والتصعيد الميداني، تسعى الى الضغط على أي مفاوضات ممكنة مع الطرف الفلسطيني ،ولم تعد تخفي مشروع استيطانها الدائم للأراضي الفلسطينية وتنفيذ سياسة ضمها لهذه الأراضي التي تعيش على وقع حرب مدمرة لم يعرف حدتها النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من قبل.
وتنفيذا لخطتها الخرقاء ،عمدت إسرائيل منذ إنهائها الأحادي لاتفاق وقف إطلاق النار في 22 مارس 2025 الى تكثيف هجماتها العسكرية على السكان المدنيين في قطاع غزة وتشديد الغارات الجوية والقصف اليومي وتدمير ما تبقى من المباني المدنية في غزة، وفرض الحصار المطبق لمنع وصول المساعدات الإنسانية للسكان وحرمانهم من الغذاء والماء والدواء والخدمات الضرورية للحياة، وتحريض المستوطنين اليهود على تصعيد اعتداءاتهم على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية والتمادي في الاستيلاء بالقوة على ممتلكات الفلسطينيين.
وتتضمن الخطة الإسرائيلية شقا يتعلق بتنفيذ عمليات واسعة للتهجير القسري للسكان المدنيين نحو جنوب قطاع غزة ،بدعوى إبعادهم و حمايتهم من العمليات العسكرية التي تشنها القوات الإسرائيلية ضد مقاتلي حماس ،كما تتضمن هذه الخطة بروتوكولا عسكريا "لتوزيع المساعدات الإنسانية" الذي رفضته منظمة الأمم المتحدة و أدانته بشدة المنظمات الدولية غير الحكومية ، لأنه تحول الى "مصيدة لموت للسكان الذين يلقون حتفهم سعيا للحصول على الغذاء "، لا سيما ان مكتب الأمم المتحدة للعمليات الإنسانية اعتبر أن إسرائيل قد حولت قطاع غزة الى المكان الأكثر عرضة للجوع في العالم .وتنص الخطة أيضا، على تنظيم وتنفيذ عمليات " للهجرة الطوعية "للسكان المدنيين من قطاع غزة نحو بلدان أخرى بما يرتبه هذا القرار من آثار و تبعات لا يمكن تصورها على حقوق الشعب الفلسطيني في البقاء على أرضه وتقرير مصيره .
ومما لا جدال فيه أن استمرار العدوان الإسرائيلي على المدنيين في غزة، وتدميرها شبه الكامل بعد مضي أكثر من سنة ونصف على ما حصل في 7 أكتوبر 2023 ، لا يمكن أن يبرر بأي حال من الأحوال بممارسة إسرائيل "لحقها في الدفاع المشروع "عن سكانها ، كما أنه يعتبر انتهاكا متعمدا ومتواصلا لجميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة منذ سنة 1947 ، فضلا عن ضرب اسرائيل بعرض الحائط للأوامر الملزمة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية ( 26 يناير 2024 ، 28 مارس 2024 ، 24 مايو 2024) ،وعدم الامتثال لها بغطرسة وتحد فاضح للمجتمع الدولي و للشرعية الدولية، مما يدفعنا الى القول دون مبالغة أن استمرار هذا الوضع المأساوي ينذر بأسوأ "السيناريوهات" المحتملة .
وإذا كان من الممكن من وجهة التحليل القانوني أن تكون السياسات الإسرائيلية وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، و الانتهاكات الفظيعة التي ترتكبها قواتها العسكرية ضد المدنيين في سياق عدوانها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، و تكييفها من زاوية القانون الدولي موضوع خلاف بين المختصين، (جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جريمة الإبادة الجماعية او انتهاكات لحق الشعوب في تقرير المصير أو حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة ...) ، ذلك أن هذه التوصيفات ما زالت محل نقاش أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فإن هذه التأويلات والتكييفات القانونية ليست حصرية في حد ذاتها كما لا يستبعد أي واحد منها التوصيفات الأخرى أو يستثنيها بالضرورة .
بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها ، هي أن حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي ما فتئت تمعن في إنكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود باعتباره من آخر الشعوب الخاضعة للاحتلال الأجنبي والذي لم يستطع بعد ممارسة حقه في تقرير مصيره.
إن حكومة دولة تدعي " الطابع الديمقراطي" لنظامها السياسي، وتتباهى بكونها " دولة قانون" وتدافع عن سياستها الاستيطانية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ، لا تتردد في نفس الوقت في شن هجوم عنيف على هذه المحاكم ، واتهامها بخطيئة معاداة السامية والتحريض ضد قضاتها والتشكيك في استقلاليتهم ونزاهتهم .فالحكومة اليمينية الإسرائيلية لا يمكنها مطلقا ان تحجب حقيقة كون ممارساتها العدوانية تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني ( منع عمليات التهجير القسري للسكان التي تعتبر من جرائم الحرب وفقا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ) ،كما ان هذه الممارسات تخرق حق الشعوب في تقرير المصير باعتباره قاعدة آمرة للقانون الدولي ، فضلا عن كون العدوان الإسرائيلي على السكان المدنيين في قطاع غزة ينطوي على احتمال قوي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وفقا للتعريف الذي تنص عليه اتفاقية 1948 لمنع هذه الجريمة والمعاقبة عليها .
ولعل ما يجدر التأكيد عليه بهذا الخصوص، أن استحضار معايير القانون الدولي التي تنتهكها إسرائيل بصلف قل نظيره في تاريخ النزاعات المسلحة، ليس مجرد استلهام قيم أخلاقية فضفاضة أو المطالبة باحترام مبادئ موروثة عن مثالية عفا عنها الزمن، كما لا يمليه البتة توظيف مزاعم وادعاءات واهية في شن "حرب قانونية" على إسرائيل، بل يتعلق الأمر بقواعد قانونية واتفاقية ملزمة وضعتها الدول واعتمدتها وصادقت عليها عبر المسار الطويل لإرساء القانون الدولي والمنظومة العالمية لحقوق الإنسان الذي بدأ قبل 1945 وتواصل بعدها.
ويستمد هذا القول أساسه وسنده القانوني الملزم من مضمون الأوامر التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في 2024، في الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب افريقيا ضد إسرائيل، والتي حددت فيها المحكمة بتفصيل التدابير الاحترازية المؤقتة والاستعجالية التي يجب على إسرائيل اتخاذها للكف عن ارتكاب انتهاكاتها العديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة والحد من تبعاتها على حقوق الشعب الفلسطيني. كما أن محكمة العدل الدولية قد سبق لها أن حسمت في رأيها الاستشاري الصادر في09 يوليوز 2004 (قضية الجدار الفاصل)، ثم في رأيها الاستشاري الآخر حول " التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية" (19 يوليوز 2024)، من بين مجموعة من الالتزامات الأخرى لسلطة الاحتلال، سحب وإخلاء جميع المستوطنين الإسرائيليين من الأراضي الفلسطينية المحتلة بطريقة غير مشروعة. ومن المرتقب أن تعود المحكمة الى هذا الموضوع بدقة وتفصيل بمناسبة الرأي الاستشاري الذي طلبته منها الجمعية العامة للأمم المتحدة (19 دجنبر 2024) بخصوص " التزامات إسرائيل المتعلقة بوجود وأنشطة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الأخرى والدول في الأرض الفلسطينية المحتلة ".
وإذا كانت إسرائيل تتحمل المسؤولية القانونية الدولية المباشرة عن انتهاكاتها المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وهذا ما خلصت اليه محكمة العدل الدولية في جميع أراءها الاستشارية الأخيرة، فإن الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة لا يمكنها بأي مبرر كان
التنصل من واجب الوفاء بالتزاماتها تجاه السياسات والممارسات والانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بصفتها دولة احتلال في الأراضي الفلسطينية. وعلاقة بالوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمنت محكمة العدل الدولية فتاواها ذات الصلة - وإن بشكل جزئي -ما يفيد تذكير الدول بالتزاماتها وفقا ل…
أضف تعليقك
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.
تعليقات
0